كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



عطف على جملة: {الله الذي رفع السماوات} فبين الجملتين شبه التضاد.
اشتملت الأولى على ذكر العوالم العلوية وأحوالها، واشتملت الثانية على ذكر العوالم السفلية.
والمعنى: أنه خالق جميع العوالم وأعراضها.
والمد: البسط والسعة، ومنه: ظل مديد، ومنه مد البحر وجزره، ومد يده إذا بسطها.
والمعنى: خلق الأرض ممدودة متسعة للسير والزرع لأنه لو خلقها أسنمة من حجر أو جبالًا شاهقة متلاصقة لما تيسّر للأحياء التي عليها الانتفاع بها والسير من مكان إلى آخر في طلب الرزق وغيره.
وليس المراد أنها كانت غير ممدودة فمدّها بل هو كقوله: {الله الذي رفع السماوات}، فهذه خلقة دالة على القدرة وعلى اللطف بعباده فهي آية ومنة. والرواسي: جمع رَاسسٍ، وهو الثابت المستقر. أي جبالًا رواسي.
وقد حذف موصوفه لظهوره فهو كقوله: {وله الجواري}، أي السفن الجارية.
وسيأتي في قوله: {وألقى في الأرض رواسي} في سورة النحل [15] بأبسط مما هنا.
وجيء في جمع راسسٍ بوزن فواعل لأن الموصوف به غير عاقل، ووزن فواعل يطرد فيما مفرده صفة لغير عاقل مثل: صاهل وبازل.
والاستدلال بخلق الجبال على عظيم القدرة لما في خلقها من العظمة المشاهدة بخلاف خلقة المعادن والتراب فهي خفية، كما قال تعالى: {وإلى الجبال كيف نصبت} [الغاشية: 19].
والأنهار: جمع نهر، وهو الوادي العظيم.
وتقدم في سورة البقرة: {إن الله مبتليكم بنهر} [249].
وقوله: {ومن كل الثمرات} عطف على: {أنهارًا} فهو معمول ل: {جَعل فيها رواسِيَ}.
ودخول: {مِن} على: {كلّ} جرى على الاستعمال العربي في ذكر أجناس غير العاقل كقوله: {وبث فيها من كل دابة}.
و{مِن} هذه تُحمل على التبعيض لأن حقائق الأجناس لا تنحصر والموجود منها ما هو إلا بعض جزئيات الماهية لأن منها جزئيات انقضت ومنها جزئيات ستوجد.
والمراد بـ: {الثمرات} هيَ وأشجارُها.
وإنما ذكرت: {الثمرات} لأنها موقع منة مع العبرة كقوله: {فأخرجنا به من كل الثمرات} [سورة الأعراف: 57].
فينبغي الوقف على {ومن كل الثمرات}، وبذلك انتهى تعداد المخلوقات المتصلة بالأرض.
وهذا أحسن تفسيرًا.
ويعضده نظيره في قوله تعالى: {ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} في سورة النحل [11].
وقيل إن قوله: {ومن كل الثمرات} ابتداء كلام.
وتتعلق: {من كل الثمرات} بـ: {جعل فيها زوجين اثنين}، وبهذا فسر أكثر المفسرين.
ويبعده أنه لا نكتة في تقديم الجار والمجرور على عامله على ذلك التقدير، لأن جميع المذكور محل اهتمام فلا خصوصية للثمرات هنا، ولأن الثمرات لا يتحقق فيها وجود أزواج ولا كون الزوجين اثنين.
وأيضًا فيه فوات المنة بخلق الحيوان وتناسله مع أن منه معظم نفعهم ومعاشهم.
ومما يقرب ذلك قوله تعالى في نحو هذا المعنى: {ألم نجعل الأرض مهادًا والجبال أوتادًا وخلقناكم أزواجًا} [النبأ: 6 8].
والمعروف أن الزوجين هما الذكر والأنثى قال تعالى: {فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى} [سورة القيامة: 39].
والظاهر أن جملة {جعل فيها زوجين} مستأنفة للاهتمام بهذا الجنس من المخلوقات وهو جنس الحيوان المخلوق صنفين ذكرًا وأنثى أحدهما زوج مع الآخر.
وشاع إطلاق الزوج على الذكر والأنثى من الحيوان كما تقدم في قوله تعالى: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} في سورة البقرة [35]، وقوله: {وخلق منها زوجها} في أول سورة النساء [1]، وقوله: {قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين}.
وأما قوله تعالى: {وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج} [ق: 7] فذلك إطلاق الزوج على الصنف بناءً على شيوع إطلاقه على صنف الذكر وصنف الأنثى فأطلق مجازًا على مطلق صنف من غير ما يتصف بالذكورة والأنوثة بعلاقة الإطلاق، والقرينة قوله: {أنبتنا} مع عدم التثنية، كذلك قوله تعالى: {فأخرجنا به أزواجًا من نبات شتى} في سورة طه [53].
وتنكير {زوجين} للتنويع، أي جعل زوجين من كل نوع.
ومعنى التثنية في زوجين أن كل فرد من الزوج يطلق عليه زوج كما تقدم في قوله تعالى: {ثمانية أزواج من الضّأن اثنين ومن المعز اثنين} الآية في سورة الأنعام [143].
والوصف بقوله: {اثنين} للتأكيد تحقيقًا للامتنان.
{يُغْشِى اليل النهار إِنَّ في ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
جملة: {يغشي} حال من ضمير: {جعل}.
وجيء فيه بالمضارع لما يدل عليه من التجدد لأن جعل الأشياء المتقدم ذكرها جعل ثابت مستمر، وأما إغشاء الليل والنهار فهو أمرٌ متجدّد كل يوم وليلة.
وهذا استدلال بأعراض أحوال الأرض.
وذكرُه مع آيات العالم السفلي في غاية الدقة العلمية لأن الليل والنهار من أعراض الكرة الأرضية بحسب اتجاهها إلى الشمس وليسَا من أحوال السماوات إذ الشمس والكواكب لا يتغير حالها بضياء وظلمة.
وتقدم الكلام على نظير قوله: {يغشي الليل والنهار} في أوائل سورة الأعراف [54].
وقرأه الجمهور بسكون الغين وتخفيف الشين مضارع أغشى.
وقرأه حمزة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوبُ، وخلف بتشديد الشين مضارع غَشّى.
وقوله: {إن في ذلك لآيات} الإشارة إلى ما تقدم من قوله: {الله الذي رفع السماوات} [الرعد: 2] إلى هنا بتأويل المذكور.
وجَعل الأشياء المذكورات ظروفًا لآيات لأن كل واحدة من الأمور المذكورة تتضمن آيات عظيمة يجلوها النظر الصحيح والتفكير المجرد عن الأوهام.
ولذلك أجرى صفة التفكير على لفظ قَوم إشارة إلى أن التفكير المتكرر المتجدد هو صفة راسخة فيهم بحيث جعلت من مقومات قوميتهم، أي جبلتهم كما بيناه في دلالة لفظ: {قوم} على ذلك عند قوله تعالى: {لآيات لقوم يعقلون} في سورة البقرة [164].
وفي هذا إيماء إلى أن الذين نسبوا أنفسهم إلى التفكير من الطبائعيين فعللوا صدور الموجودات عن المادة ونفوا الفاعل المختار ما فكروا إلا تفكيرًا قاصرًا مخلوطًا بالأوهام ليس ما تقتضيه جبلة العقل إذْ اشتبهت عليهم العلل والمواليد، بأصل الخلق والإيجاد.
وجيء في التفكير بالصيغة الدالة على التكلف وبصيغة المضارع للإشارة إلى تفكير شديد ومُكرر.
والتفكير تقدم عند قوله تعالى: {أفلا تتفكرون} في سورة الأنعام [50].
{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ}
لله بلاغة القرآن في تغيير الأسلوب عند الانتقال إلى ذكر النعم الدالة على قدرة الله تعالى فيما ألهم الناس من العمل في الأرض بفلحها وزرعها وغرسها والقيام عليها، فجاء ذلك معطوفًا على الأشياء التي أسند جَعْلها إلى الله تعالى، ولكنه لم يسند إلى الله حتى بلغ إلى قوله: {ونفضل بعضها على بعض في الأكل}، لأن ذلك بأسرار أودعها الله تعالى فيها هي موجب تفاضلها.
وأمثال هذه العِبر، ولَفْتتِ النظر مما انفرد به القرآن من بين سائر الكتب.
وأعيد اسم: {الأرض} الظاهر دون ضميرها الذي هو المقتضَى ليستقل الكلام ويتجدد الأسلوب، وأصل انتظام الكلام أن يقال: جَعل فيها زوجين اثنين، وفيها قطعٌ متجاورات، فعدل إلى هذا توضيحًا وإيجازًا.
والقِطع: جمع قِطعة بكسر القاف، وهي الجزء من الشيء تشبيهًا لها بما يقتطع.
وليس وصف القِطع بمتجاورات مقصودًا بالذات في هذا المقام إذ ليس هو محل العبرة بالآيات، بل المقصود وصفٌ محذوف دل عليه السياق تقديره؛ مختلفات الألوان والمنابت، كما دل عليه قوله: {ونفضل بعضها على بعض في الأكل}.
وإنما وصفت بمتجاورات لأن اختلاف الألوان والمنابت مع التجاور أشد دلالة على القدرة العظيمة، وهذا كقوله تعالى: {ومن الجبال جُدَدٌ بِيض وحُمر مختلفٌ ألوانها وغرابيب سود} [فاطر: 27].
فمعنى {قطع متجاورات} بقاعٌ مختلفة مع كونها متجاورةً متلاصقة.
والاقتصار على ذكر الأرض وقِطعها يشير إلى اختلاف حاصل فيها عن غير صنع الناس وذلك اختلاف المراعي والكلأ.
ومجرد ذكر القطَع كاف في ذلك فأحالهم على المشاهدة المعروفة من اختلاف منابت قطع الأرض من الأبّ والكلإ وهي مراعي أنعامهم ودوابّهم، ولذلك لم يقع التعرض هنا لاختلاف أُكله إذ لا مذاق للآدمي فيه ولكنه يختلف شَرعهُ بعض الحيوان على بعضه دون بعض.
وتقدم الكلام على: {وجنات من أعناب} عند قوله تعالى: {ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب} [الأنعام: 99].
والزرع تقدم في قوله: {والنخل والزرع مختلفا أكله} [الأنعام: 141].
والنخيل: اسم جمع نخلة مثل النخل، وتقدم في تلك الآية، وكلاهما في سورة الأنعام.
والزرع يكون في الجنات يزرع بين أشجارها.
وقرأ الجمهور {وزرع ونخيل} بالجر عطفًا على: {أعناب}، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص، ويعقوب بالرفع عطفًا على: {جنات}.
والمعنى واحد لأن الزرع الذي في الجنات مساوٍ للذي في غيرها فاكتُفي به قضاء لحق الإيجاز.
وكذلك على قراءة الرفع هو يغني عن ذكر الزرع الذي في الجنات، والنخل لا يكون إلاّ في جنات.
وصنوان: جمع صِنو بكسر الصاد في الأفصح فيهما وهي لغة الحجاز، وبضمها فيهما أيضًا وهي لغة تميم وقيسسٍ.
والصنو: النخلة المجتمعة مع نخلة أخرى نابتتين في أصل واحد أو نخلات.
الواحد صنو والمثنى صنواننِ بدون تنوين، والجمع صِنوانٌ بالتنوين جمع تكسير.
وهذه الزنة نادرة في صيغ أو الجموع في العربية لم يحفظ منها إلا خمسةُ جموع: صِنو وصنوانٌ، وقِنْو وقنوانٌ، وزِيدٍ بمعنى مِثْل وزِيدَانٍ، وشِقْذ بذال معجمة اسم الحرباء وشِقذان، وحِشّ بمعنى بستان وحِشاننٍ.
وخصّ النخل بذكر صفة صنوان لأن العبرة بها أقوى.
ووجه زيادة: {وغير صنوان} تجديد العبرة باختلاف الأحوال.
وقرأ الجمهور: {صنوان وغير صنوان} بجر: {صنوان} وجر: {وغير} عطفًا على: {زرع}.
وقرأهما ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص، ويعقوب بالرفع عطفًا على: {وجنات}.
والسقي: إعطاء المشروب.
والمراد بالماء هنا ماء المطر وماء الأنهار وهو واحد بالنسبة للمسقى ببعضه.
والتفضيل: منة بالأفضل وعبرة به وبضده وكناية عن الاختلاف.
وقرأ الجمهور: {تُسقَى} بفوقية اعتبارًا بجمع: {جنات}، وقرأه ابن عامر، وعاصم، ويعقوب: {يسقى} بتحتية على تأويل المذكور.
وقرأ الجمهور: {ونفضل} بنون العظمة، وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف: {ويفضل} بتحتية.
والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {الله الذي رفع السماوات بغير عمد}.
وتأنيث: {بعضها} عند من قرأ: {يسقى} بتحتية دون أن يقول بعضه لأنه أريد يفضل بعض الجنات على بعض في الثمرة.
والأُكْل: بضم الهمزة وسكون الكاف هو المأكول.
ويجوز في اللغة ضم الكاف.
وظرفية التفضيل في: {الأكل} ظرفية في معنى الملابسة لأن التفاضل يظهر بالمأكول، أي نفضل بعض الجنات على بعض أو بعض الأعناب والزرع والنخيل على بعض من جنسه بما يثمره.
والمعنى أن اختلاف طعومه وتفاضلها مع كون الأصل واحدًا والغذاء بالماء واحدًا ما هو إلا لقوى خفيّة أودعها الله فيها فجاءت آثارها مختلفة.
ومن ثم جاءت جملة: {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} مجيء التذييل.
وأشار قوله: {ذلك} إلى جميع المذكور من قوله: {وهو الذي مدّ الأرض} [سورة الرعد: 3].
وقد جعل جميع المذكور بمنزلة الظرف للآيات.
وجعلت دلالته على انفراده تعالى بالإلهية دلالات كثيرة إذ في كل شيء منها آية تدل على ذلك.
ووصفت الآيات بأنها من اختصاص الذين يعقلون تعريضًا بأن من لم تقنعهم تلك الآيات منزّلون منزلة من لا يعقل.
وزيد في الدلالة على أن العقل سجية للذين انتفعوا بتلك الآيات بإجراء وصف العقل على كلمة {قَوم} إيماء إلى أن العقل من مقومات قوميتهم كما بيناه في الآية قبلها. اهـ.